آهِ أيُها البحرُ!
إنسان بسيط، حياته بسيطة الأركان، زوجته طفلاه قاربه والشاطئ السعيد..
يصحو كل يوم من عنق الصباح يلقي نظرة على الأجساد الصغيرة الممتدة حوله..! يا لبراءة الأطفال..
يدنو منهم يطبع على وجوههم الرقيقة قبلات يسبغها من روحة..
ويغدو...
يغدو نحو الشاطئ...
آه.. زوجته..!,يا محمد نسيت أن تودع زوجتك..!! آه.. نعم..!! يضع ما في يديه...
ثقيل أنت ما تحمله يا محمد على جسدك الهزيل هذا!!..
يعود مسرعا إلى كوخه، يعود كي يودع زوجته؟؟!..
آه.. كأنه سوف يرحل!!..
يسرع الخطى..
هذا أنت يا محمد، تستوقفه زوجته في الطريق، يفاجأ بها، نعم... نعم...! أنت هنا
إذن..
تسأله: لماذا عائد يا محمد، هل نسيت شيئا؟!..
نعم.. نسيت أن.. أن... نعم نسيت أن أوصيك بنفسك وبالأطفال..! يا محمد.. تستغرب الزوجة: أنت كثيرا ما تنسى ذلك.. فلماذا اليوم يا عزيزي,؟.. لا لا شيء يا
عزيزتي... يصمت قليلا.. يشعر بخفقان قلبه يزيد..
ينفض عن نفسه تلك الأحاسيس.. حسنا -يبتسم إلى زوجته- أنا ذاهب... في أمان الله..
يعود إلى الشاطئ..
يستغرب من هذا الشعور الذي يراوده..!! يحاول أن يعود إلى طبيعته، يتناسى ما حدث.. ويمشي نحو الشاطئ..
صياح الناس... لعب الأطفال.. ضحكاتهم وصراخهم يملأ الشاطئ... تعود إليه صور أطفاله وصورة زوجته...
آه.. كم أنت شاعري أصبحت يا محمد.. على غير عادتك!!..
يسلم على أصحابه الذين يعج بهم الشاطئ... يصعد نحو مركبة.. متباطئ الخطى.. وكأنه يغدو نحو جوف كابوس يريد أن يبتلعه.. ولكنك يا محمد تعشق البحر.. وتحب القارب... فما بالك اليوم؟؟!..
ويندفع القارب يشق مياه الشاطئ نحو البحر... البحر الذي يحبه أبناء هذه القرية البسيطة.. فهو مصدر عيشهم الوحيد...
يلقون الشباك..
وعلى أنغام يعزفها أصحابه في المركب ينتظرون صيدهم ليعودوا نحو الشاطئ حيث الرمال حيث الكوخ والأهل والأطفال...
يستلقي محمد.. ينظر نحو السماء.. يراوده النعاس، يغمض عينيه، ويتسلل النوم إليه ببطء..
يتدافع الأطفال نحو الشاطئ... صيحات استغراب.. أصوات الضحك... صيحات اندهاش واستغراب.. يا للغرابة البحر يبلع ماءه.. الأطفال والكبار يتسابقون لجمع الأسماك التي تركتها المياه راسبة على الشاطئ..
يصحو محمد على صيحات أصحابه..
أمواج... يا إلهي أمواج قوية تتجه نحونا.. يا الهي..
يحاولون أن يتسلقوا بقاربهم المياه نحو الشاطئ.. ولكن.. ولكن المياه تهدر نحوهم.. كمفترس جائع يغوص نحو فريسته..
الأطفال.. الناس على الشاطئ يصيحون.. يهربون مبتعدين...
إنها أمواج عاتية تأتي من بعيد... يا الهي.. البحر يقذف ما ابتلعه.. يقذفه بغضب!!..
تثبتوا.. محمد يمسك بأطراف القارب.. ولكن الموج عات يا محمد.. يتراءى لمحمد صورة أطفال، زوجته، قريته، وكل أحبته.. إنه يعشقهم... لم يودعهم...آه.. يا محمد الآن عرفت.. معنى الكابوس الذي راودني منذ الصباح.. آه...
ويختفي صوته.. ويختفي القارب... ويختفي صياح الأطفال.. يختفي الكوخ.. وتختفي القرية...
آه.. أيها البحر.. كم أحبوك هؤلاء..
آه.. أيها الشاطئ.. كم على رمالك خطوات الأطفال قد رسمت...
بسيط أنت أيها الإنسان... ضعيف أنت كبيت كوخ في جوف العواصف.. بسيط كما القارب ومحمد والأطفال أنت!!... انتهت.
إلى كل الأرواح البريئة الطاهرة التي قضت في هذا الكارثة البيئية... ونسأل الله لكل المنكوبين هناك العون والمساعدة.
تحياتي